الإسراف في المال في الإسلام

عنوان المقال: الإسراف في المال في الإسلام

مقدمة

الإسلام دين الوسطية والاعتدال، يدعو إلى التوازن في كل مناحي الحياة، بما في ذلك التعامل مع المال والموارد. ومن القيم الأساسية التي يحرص الإسلام على ترسيخها في نفوس أتباعه: القناعة، والاعتدال في الإنفاق، والبعد عن الإسراف والتبذير. وقد حذر القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من مغبة الإسراف في المال، لما له من آثار اجتماعية واقتصادية وروحية مدمرة على الفرد والمجتمع.

في هذا المقال، نُسلط الضوء على مفهوم الإسراف في المال من المنظور الإسلامي، ونتناول مظاهره، وأسبابه، وآثاره السلبية، وأحكامه في الشريعة، كما نعرض سبل الوقاية منه، مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة، وأقوال العلماء، والمصادر المعتمدة في الفقه الإسلامي.

أولاً: تعريف الإسراف في المال

الإسراف لغةً: مجاوزة الحد في الشيء. ويقال: أسرف في النفقة، إذا تجاوز القصد والاعتدال.

أما في الاصطلاح الشرعي، فيُقصد به: صرف المال في غير مواضعه الشرعية، أو تجاوزه في مواضعه بما لا فائدة فيه، أو إنفاقه بغير حق أو دون حساب.

قال الراغب الأصفهاني: “الإسراف هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر.”

وقال القرطبي: “الإسراف هو التبذير في غير طاعة الله.”

ثانيًا: النصوص الشرعية التي تنهى عن الإسراف

وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية تدعو إلى الاعتدال وتنهى عن الإسراف، منها:

• في القرآن الكريم:

قال تعالى:

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]

وقال تعالى:

﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 27]

وقال تعالى:

﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29]

• في السنة النبوية:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:

«إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها» [رواه مسلم].

فهذا الحديث يدل على التقدير والشكر، وأن النعمة يجب أن تقابل بالاعتدال لا بالسرف.

ثالثًا: مظاهر الإسراف في المال

الإسراف في المال له صور متعددة ومتنوعة، نذكر منها:

1. الإسراف في المأكل والمشرب

من أبرز صور الإسراف في المجتمعات الحديثة، كثرة التبذير في الطعام والشراب، وشراء ما لا حاجة له، والولائم المبالغ فيها، وكثرة الفاقد من الأطعمة.

2. الإسراف في الملابس والزينة

اقتناء الملابس الفاخرة بأعداد كبيرة، والحرص على الموضة وتبديل الثياب باستمرار دون حاجة، يعد نوعًا من السرف.

3. الإسراف في شراء الكماليات

كشراء الأجهزة الحديثة، أو السيارات الفاخرة، أو الأثاث الباهظ، لأغراض التفاخر لا للحاجة.

4. الإسراف في الأعراس والمناسبات

تتجلى في مظاهر البذخ في حفلات الزفاف، وشراء الهدايا الفخمة، والإفراط في الإنفاق على المظاهر دون اعتبار للمعاني.

5. السفر من أجل الترف فقط

القيام برحلات سياحية مفرطة التكلفة، دون هدف نافع سوى الترف والبذخ.

6. القمار والميسر والمعاملات الربوية

وهي من صور الإنفاق المحرم التي تجمع بين الإسراف وتحريم الوسيلة نفسها.

رابعًا: أسباب الإسراف في المال

للإسراف دوافع نفسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، نذكر منها:

خامسًا: الآثار السلبية للإسراف

الإسراف في المال له نتائج وخيمة تطال الفرد والمجتمع، منها:

1. الفقر والعوز

كثرة الإنفاق في غير موضعه تفضي بالفرد إلى الإفلاس والعجز المالي، وربما إلى الديون.

2. ضياع النعمة

الإسراف يؤدي إلى كفران النعمة، مما قد يكون سببًا في زوالها، مصداقًا لقوله تعالى:

﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7]

3. التفكك الأسري

كثرة المصروفات قد تؤدي إلى الخلافات الزوجية، وتهدد استقرار الأسرة.

4. الفجوة الطبقية

الإسراف في الإنفاق من قبل الأغنياء يؤدي إلى زيادة التفاوت الطبقي ويعمّق مشاعر الحقد والاحتقان الاجتماعي.

5. تدمير البيئة والموارد

الإنفاق المفرط يؤدي إلى استهلاك غير مبرر للموارد الطبيعية، ويساهم في التلوث والنفايات.

سادسًا: ضوابط الإنفاق في الإسلام

الإسلام لا يحرم التمتع بالمال، بل ينظم طريقة إنفاقه وفق معايير شرعية دقيقة:

1. الإنفاق في حدود الحاجة

المسلم مطالب أن يوازن بين الإنفاق والإدخار، وأن يوجه المال نحو الحاجات الفعلية لا الكمالية.

2. الإنفاق في سبيل الله

المال وسيلة للخير، فيجب توجيهه نحو البر، كالصّدقة، وبناء المساجد، وكفالة الأيتام.

3. الاعتدال والاقتصاد

قال النبي ﷺ:

«خير الأمور أوسطها»، وهذا أصل عظيم في كل شؤون الحياة، ومنها الإنفاق.

4. النية الصالحة في الإنفاق

ينبغي أن يكون كل إنفاق بنية الخير والبركة، لا للرياء والمباهاة.

سابعًا: حكم الإسراف في المال شرعًا

الإسراف في المال محرم إذا تجاوز حدود الاعتدال ووقع في البذخ أو في المعاصي.

قال الإمام النووي: “السرف محرم في الأكل والشرب واللباس وسائر وجوه الإنفاق، حتى في المباحات إذا خرج عن الاعتدال.”

فإذا أنفق الإنسان ماله في أمور محرمة، كالخمور أو القمار أو الربا، فإن ذلك من الكبائر. أما إذا كان الإنفاق في المباحات ولكن على وجه المبالغة المفرطة، فإنه مكروه أو محرم بحسب درجة التجاوز.

ثامنًا: نماذج من الاعتدال في إنفاق الصحابة

كان الصحابة الكرام، مع غناهم، يتحلون بالزهد في المال، ومن أمثلتهم:

• عبد الرحمن بن عوف: أحد أغنياء الصحابة، لكنه كان كثير الصدقة والبر، وكان يعيش في بساطة.

• أبو بكر الصديق: أنفق معظم ماله في سبيل الله، لكنه لم يكن مسرفًا، وكان حريصًا على التوازن.

• عمر بن الخطاب: عُرف عنه شدة محاسبته لنفسه في الإنفاق، وكان يقول: “كفى بالمرء سرفًا أن يشتري ما لا يحتاج إليه.”

تاسعًا: وسائل الوقاية من الإسراف

للتخلص من داء الإسراف، يجب اتخاذ خطوات عملية، منها:

1. تعميق الجانب الإيماني
   
   غرس تقوى الله ومراقبته في القلب.

2. التخطيط المالي السليم
   
   وضع ميزانية واضحة للأسرة والالتزام بها.

3. تعلم فقه الإنفاق
   
   فهم الأحكام الشرعية المتعلقة بالمال والإنفاق.

4. الاقتناع والكفاية
   
   تنمية الشعور بالقناعة والرضا.

5. البعد عن البيئات الاستهلاكية
   
   تقليل التعرض للدعاية والإعلانات التي تشجع على التبذير.

6. الاستشارة والتوجيه
   
   اللجوء إلى ذوي الخبرة عند الحيرة في كيفية الإنفاق.

خاتمة

الإسراف في المال خطرٌ عظيم يهدد تماسك المجتمعات واستقرار الأفراد، وقد نهى الإسلام عنه بكل صراحة ووضوح، واعتبره من السلوكيات المذمومة التي لا تليق بالمؤمن الواعي. فالإسلام دين التوازن والاعتدال، يدعو الإنسان إلى أن يكون رشيدًا في إدارة ماله، حريصًا على استثمار نعم الله في الخير، بعيدًا عن الغلو والإفراط. وكل مالٍ أُنفق بغير وجه حق، سيُسأل عنه صاحبه يوم القيامة، مصداقًا لقوله ﷺ: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع… وذكر منها: وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه” [رواه الترمذي].

المراجع:

1. تفسير ابن كثير، تفسير الآيات المتعلقة بالإنفاق والإسراف.

2. الجامع لأحكام القرآن – الإمام القرطبي.